Canalblog
Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

PHILOSOPHIE ARABE

19 novembre 2010

تحرير الأستاذ: خالد كلبوسي. القيروان 27 ـ 5 ـ 20

تحرير الأستاذ: خالد كلبوسي. القيروان 27 ـ 5 ـ 20

هل تتحقّق الحرّية بمعزل عن الآخرين؟      

يراود حلم الحرّية مشاعر وعقول الملايين في كلّ الأوقات، إنّها المنسيّ الّذي لا يُنسى والرّجاء المطلق حين يخيب الرّجاء. كم من إنسان واجه آلة الطغيان الجبّارة من أجل الحرّية بل قد « نجد مُدنا بأكملها هلكت من أجل حرّية مزعومة ». ونحن يمكن أن نتخيّل أنّات الإنسانية المُقيّدة الطامحة لنيل الحرّية بأيّ ثمن مهما كان. غير أنّه يمكن الزّعم بأنَّ الوعي الحادّ بقيمة الحرّية يُمثّل ميزة الأزمنة الحديثة بلغة هيغل، وفعلا إنّ العصر الحديث هو الذي رفع شعار الحرّية و سعى إلى تحقيقها فعليًّا في الواقع حيث يمكن القول إنّ الإنسانية بدأت صناعة تاريخها فعلا. وإنّ من مظاهر الوعي بقيمة الحرّية نُموّ ما يُعرف بالنزعة الفردية حيث يسطع نجم الفرد لأوّل مرّة في سماء الحداثة الساعية إلى التخلّص من كلّ وصاية بكلّ ما أوتيت من جهد وشجاعة. فهل إنّ ارتباط الحرّية بالنزعة الفردية يفترض أنّ المجموعة تُمثّل عائقا يحول دون تحقيق الفرد لذاته وبالتّالي لحرّيته؟ هل يمكن أن يُحلّق الفرد حرّا بعيدا عن المجتمع ؟ ألا يُمثّل الآخرون شرطا أنطولوجيا لتحقيق الحرّية مهما كانت علاقة الأنا بهم؟
يرتبط معنى الحرّية بالفعل الإنسانيّ بما هو فعل إرادي. إذ لا قيمة للحرّية إن لم تمتزج بنبض الحياة المتدفّق في كلّ الاتّجاهات. إنّها تستبعد وتصارع كلّ إلزام سلطوي يُفرض على الأنا من الخارج سواء كان مصدره بشريا أو غيبيا. و لهذا يبدو أنّ تحقّق الحرّية رهين استبعاد الآخر في صيغة الجمع، ذلك أنّ الفرد يولد وينشأ داخل فضاء اجتماعي يُوجّه سلوكه وتفكيره منذ الطّفولة حتّى أنّه يمكن القول إنّ الفرد يعيش داخل المجتمع دون تفرّد دون خاصيات فردية يختارها هو لنفسه. ولهذا يتحدّث البعض أنّ الفرد لا يولد حين يولد إنّما يولد حين يبدأ هو نفسه الاختيار، إنّ الولادة البيولوجية قدر بينما الولادة الوجودية اختيار. الآخر هو قبل كلّ شيء ما ليس أنا. يحوّلني ظهور الآخر في العالم إلى مجرّد موضوع نكرة، شيء من الأشياء، يسلبني إنّيتي على نحو ما بيّن ذلك سارتر في" كتابه الوجود والعدم" عندما حلّل نظرة الآخر إلى الأشياء أوّلا وإلى الأنا ثانيا. فلنتصوّر مع سارتر أنّني أجلس" في حديقة عمومية وغير بعيد مني يمتدّ بساط من الخضرة وعلى طول هذا البساط كرسي، يمرّ إنسان بالقرب من الكرسيّ" . ينظر الأنا إلى الأشياء محوّلا إيّاها إلى موضوعات لنظرته ( ما يُمثّل الأشياء هنا بساط من الخضرة، كرسي…) وهي ما يُشكّل عالمه في تلك اللحظة ولاحقا ينضاف إليها الشخص اّذي يمرّ بالقرب من الكرسيّ. غير أنّ الأنا سرعان ما يدرك أنّ الشخص الذي حوّلته نظرته إلى موضوع ينظر هو إلى الأشياء مثله. عند ذلك يشعر أنّ هذا الآخر "يسرق" منه عالمه في مرحلة أولى يقول سارتر:"إن ظهور الغير يشكّل انسحابا متحجّرا للعالم كلّه." وفي مرحلة ثانية يسرق منه ذاته عندما ينظر إليه مثلما ينظر إلى بقية الموضوعات. لذلك يقول سارتر"أخجل من نفسي كما أظهر للآخرين". ذلك أنّ الآخر ينظر إليّ كما ينظر إلى أي شيء من الأشياء وهكذا يكون "الآخر هو الجحيم". ينتج عن ذلك صراع مرير بين الأنا والآخر بين الفرد والمجتمع لا يستطيع تجاوزه إلاّ عبر النّفي أي التّمرد على الحشد أو القطيع على حدّ عبارة نيتشه. هاهنا يمكن لنا كذلك أن نستعين في تحليل علاقة الأنا بالآخر بجدلية السيد والعبد الهيغلية حيث يصفها هيغل بأنها "صراع من أجل الحياة أو الموت". عند هذه الفكرة يلتقي سارتر مع ألبير كامو Camus الّذي يعتبر التمرّد ميزة العالم الحديث بما يحتويه ذلك من حرّية والتزام. فإذا كان لا بدّ من قدر، فقدر الإنسان أن يكون حرّا، يحمل حرّيته على كاهله بما تعنيه من مسؤولية وليس بما تعنيه من أثقال، هي هو وهو هي، لا فرق. لكن هذه الحرّية لا يفوز بها إلاّ الجسور ذلك الذي يملك روح التّمرّد الخلاّق وليس "التمرد "العامّي المبتذل.
لئن كانت علاقة الأنا بالآخرين يحكمها الصّراع المرّ من أجل الحرّية، فهذا لا يعني أبدا أنّ الفرد يمكن أن يوجد بمعزل عن الآخرين اللهمّ إلاّ ضمن تصوّر موغل في المثالية وهو ما اصطلح على تسميته بـالأنانة le solipsisme على غرار التّصور الدّيكارتي. ذلك أنّ الفرد لا يكون فردا إلاّ بالنسبة للمجتمع و الأنا لا يكون "أنا" إلاّ بالنسبة للآخرين. والآن إذا كان لا بدّ من الاجتماع فكيف السبيل إلى تحقيق الحرّية؟ يعلم الجميع أنّ الإنسان لا يستطيع تحصيل معاشه بلغة ابن خلدون إلاّ بمساعدة الآخرين من بني جنسه، أي عن طريق العمل. فالعمل هو الذي يحرّر الإنسان من عبودية الضّرورة. ورغم أنّ النظام الرأسمالي الحديث يجعل العمل مغتربا، فإنّه يفتح الباب دون قصد أمام العامل ليتخلّص ليس من عبودية للطبيعة فحسب بل من عبودية الإنسان للإنسان. حيث بإمكان اتّحاد العمّال فيما بينهم أن يجعل الإنسانية تدخل تاريخها الحقيقيّ وذلك بتجاوز النظام الرأسمالي نفسه كما دعا إلى ذلك ماركس أو على الأقل بالتأسيس لمجتمع عادل كما يتصوّره جان راولس في نظريته للعدالة القائمة على مبدأي الحرّية للجميع من جهة وتكافؤ الفرص من جهة أخرى. غير أنّ اجتماعية الإنسان لا تختزل في التعاون على تحصيل الرّزق، بل تفترض كذلك الاشتراك في إدارة الشأن العامّ أي ما يُسمّى الوجود السّياسي. يلاحظ روسو في بداية كتابه "العقد الاجتماعي أنّ" الإنسان ولد حرّا لكنّه مكبّل بالأغلال حيثما وجد." إنّما الأغلال هنا هي قيود المجتمع كخيوط العنكبوت تفوح منها رائحة الموت. غير أنّ ذلك لا يعني أبدا أنّ بإمكان الإنسان أنّ يتخلّص من الاجتماع، إنّما يدفعنا ذلك إلى البحث عن حلّ ممكن لمشكل الحرية. والحلّ هنا ليس في العزلة إنّما الحلّ في إنشاء دولة القانون. ويعني ذلك القوانين التي يختارها الشعب لنفسه بنفسه وليست القوانين التي يخترعها البعض ليستعبدوا البعض الآخر. فأن يشارك المواطن في إنشاء قوانين يلتزم بها لا يتناقض مع حقّه الطبيعيّ في الحرية، هاهنا تتمثّل الحرّية في أن يطيع المواطن القوانين لا أن يخضع إلى إرادة سيّد مزعوم يُرغم الرّعية على تنفيذ أوامره لحساب مصلحته الشخصية لا المصلحة العامة، يقول منتسكيو في هذا السياق:"الحرية تتمثّل في فعل كلّ ما تسمح به القوانين." إنّ فكرة مشاركة المواطن في إنشاء القوانين في المجال السياسي هي التي تجد كفؤا لها في فكرة التشريع الذاتي للإرادة في المجال الأخلاقي لدى كانط، حيث أنّ الإرادة الخيّرة هي التي تصوغ بنفسها الواجب الذي يلتزم به الإنسان، إنّ الإنسان مع روسو وكانط هو الذي ينشىء القاعدة ويلتزم بها و بذلك يحقّق حريته. وبيّن أنّ القاعدة سواء في المجال السياسي أو المجال الأخلاقي ليست قاعدة خاصّة بفرد معزول عن الآخرين إنّما قاعدة موجّهة لسلوك الأفراد داخل المجتمع. وهكذا فإنّ الآخرين يمكن أن يساعدوا الأنا على تحقيق الحرّية. لكن من الممكن هنا أن نتحدّث عن شروط إمكان نظريه مثالية في حين أنّ المطلوب التحقّق الفعلي للحرّية. عند هذه النّقطة علينا أن ننظر إلى الحرّية باعتبارها جهدا وكسبا منحوتا فهي ليست معطى إنّما هي مهمّة تاريخية. جهد جماعي ما ينفكّ يحرّك التاريخ الإنساني حيث لا تستبعد الحرّية الضرورة، فالإنسان يتخلّص من عبودية الضرورة الطبيعية والتاريخية ليس بتجاهلها إنّما بمعرفة القوانين الطبيعية والتّاريخية واستغلالها لصالحه على نحو ما نستغلّ معارفنا العلمية في تلبية حاجاتنا. غير أنّ الحرّية لا تظهر في العلم فقط. بل لعلّ الفنّ هو أشدّ التعبيرات الإنسانية عمقا عن الحرّية الخلاّقة حيث فرادة الإبداع والإيغال في الذاتية لا يستبعدان البعد الكوني للعمل الفنّي، بل لا يكون عمل ما فنّيا إذا كان مجرّد تعبير عن مشاعر وخواطر شخصية خالصة. إنّ الذات المبدعة ليست انطوائية بل هي انفتاح على العالم والتاريخ، والعمل الفنيّ في حقيقته نداء خالد وحرّ للآخرين. من هنا تتأتّى كونية الحكم الجمالي على نحو ما شرحه كانط في كتابه "نقد ملكة الحكم". هكذا يمكننا أن نعتبر أنّ من حقّ العصر الحديث أن يفخر بميلاد النّزعة الفردية على ألاّ تفهم باعتبارها رفضا قطعيا للآخرين، بل إنّ حرّية الفرد في المجال الأخلاقي والسياسي لا معنى لها خارج المجتمع والدّولة. و نحن قد نسيء فهم الوجودية إذا اعتبرناها فلسفة رفض الآخرين. صحيح أنّ الوجودية ذات نزعة فردية لكنّها لا تنكر وجود الآخرين أوّلا ولا تعتبر حرّية الاختيار خاصّة بالفرد في عزلة عن الآخرين، يقول سارتر:" إذ أختار لنفسي فإنّني أختار الإنسان". إنّما الخطر الحقيقي الذي يهدّد حرّية الأفراد في عالمنا المعاصر يأتي من تحويل الحرّية إلى قناع إيديولوجيّ يخفي إرادة السيطرة والهيمنة. فالليبرالية المعاصرة لا" تملك" من الحرّية إلا ّاسما مفرغا من المعنى. إنّها حرّية المستهلك المذلّة حيث يتمّ التحكّم في الأفراد من خلال توجيه رغباتهم نحو أقصى حدّ من الاستهلاك، ولعلّ أشدّ الأمور فضاعة أن يتمّ إخضاع الأفراد والجماعات باسم ديمقراطية مزعومة على مرأى ومسمع العالم كلّه دون أن يخجل الفاعل عمّا يصدر عنه من مغالطات وحيل قد لا تنطلي حتّى على الأغبياء.
يجب التّمييز إذن بين حرّية أصيلة وأخرى مزيفة. بين وجود إنسانيّ أصيل وآخر مغترب. حتّى لا تسقط الإنسانية في العبثية المطلقة ممّا يُنبئ بالكارثة. و على الإنسانية أن تحذر السّقوط في شراك الغربان الناّعقة تلك التي تدّعي أنّ الحرّية قد تحققّت وانتهى التاريخ بانتشار ما يُسمّى النظام العالمي الجديد.
طريق النجاح: نشكر للزميل خالد الكلبوسي على تعاونه.

Publicité
Publicité
15 novembre 2010

الفكر الاجتماعي من دوركهايم إلى غوستاف لوبون

- هاشم صالح

تحت هذا العنوان أصدر البروفيسور كريستيان غيملي، الأستاذ في جامعة مرسيليا، كتابا يستحق الاهتمام والعرض. وقد تحدث فيه عن رواد الفكر الاجتماعي في أوروبا، وفي طليعتهم دوركهايم. ومعروف عنه أنه كان أحد المعجبين الكبار بالفيلسوف أوغست كونت، بعد أن تربى في أحضان فلسفته: أي الفلسفة الوضعية. كان دوركهايم أول من اكتشف خصوصية الظاهرة الاجتماعية، هذه الخصوصية التي تشكل الموضوع الأساسي لعلم الاجتماع. في الواقع إن الظاهرة الاجتماعية تعني استقلالية الجماعة بالقياس إلى الأفراد. فالجماعة لا تعني مجموع سلوك الأفراد أو خصائصهم، وإنما هي تتجاوز ذلك أو تختلف عنه. والجماعة هي التي تفرض على الأفراد التزامات وإكراهات تتجاوزهم ولا حيلة لهم بها. نقول ذلك ونحن نعلم أن كل نظرية دوركهايم مبنية على هذا الأساس: أي أولوية المجتمع على الفرد. فالمجتمع هو الأهم، وهو الذي يفرض قيمه على الفرد وليس العكس. من هنا نشأ علم الاجتماع. ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن الوعي الجماعي هو الذي يصوغ المواقف الفردية أو السلوك الفردي. فالجماعة تؤثر كثيرا على الفرد وتصوغ عقليته بطريقة من الطرق. والدليل على ذلك أن الفرد الذي يولد في المجتمع الأوروبي يختلف كثيرا في تصرفاته وسلوكه عن الفرد الذي يولد في المجتمع العربي أو الإسلامي مثلا. وهذا ما نستطيع أن نلاحظه بسهولة. إن أولوية الجماعة على الفرد هي التي تشكل جوهر الفكر الاجتماعي.


كان دوركهايم قد نشر عام 1912 كتابا أساسيا بعنوان «الأشكال الأولية للحياة الدينية». وفيه يبرهن على أهمية العقائد الجماعية بالنسبة لحياة المجتمعات. ويبرهن أيضا على أن التصورات الدينية هي تصورات جماعية، أي تفرض نفسها على الأفراد من خلال المجتمع. وبالتالي، فإن التضاد بين التصورات الجماعية والتصورات الفردية هو الذي يشكل الجانب الأساسي من نظرية دوركهايم السوسيولوجية. فالتصورات الجماعية تنتج عن قوة لا شخصية، مغْفَلة ومجهولة ومنبثة في كل أنحاء المجتمع. وهي قوة منبثقة عن المجتمع نفسه. وبالتالي، فهذه التصورات منتَجة بشكل جماعي. وبما أن جميع أفراد المجتمع يعتقدون بها، فإنها تتمتع باستقرار كبير. وأما التصورات الفردية فناتجة عن الوعي الفردي لكل شخص. وهي لا تلزم إلا صاحبها، وتكون عرضة للتغير السريع، على عكس التصورات الجماعية التي تبقى سنوات عديدة، وربما قرونا.


لقد ألح دوركهايم طيلة حياته كلها على هذا التضاد الأساسي بين التصورات الفردية/والتصورات الجماعية. فالتصورات الجماعية تفرض على الفرد قيودا محدودة في فترة ما من فترات التاريخ، أي ما دامت سائدة وراسخة. ولكنها قد تتغير بعد زمن طويل لكي تحل محلها تصورات جماعية جديدة. نضرب على ذلك مثلا، المجتمع الفرنسي. فالتصورات الجماعية التي كانت مهيمنة عليه قبل الثورة الفرنسية، غير التصورات الجماعية التي هيمنت عليه بعدها. وداخل هذه التصورات الجماعية يجد الفرد نفسه مدعوا للتفكير والممارسة وإطلاق الأحكام على محيطه المادي أو الاجتماعي. لقد كانت لهذه النظرية الاجتماعية (أو السوسيولوجية) انعكاسات ثورية في عصر دوركهايم. فقد كان علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في عصره لا يرون في أساطير الشعوب «البدائية» وممارساتها إلا نوعا من العبث والاعتباط والفوضى. وأما دوركهايم فكان يري فيها تصورات جماعية لها تماسكها الداخلي الخاص. وبالتالي، فإن نظرية دوركهايم، التي سيطورها ليفي برول من بعده، غيرت كل منظور تلك الفترة. فالأفراد الذين ينتمون إلى المجتمعات البدائية، أو المدعوة كذلك، ليسوا عاجزين عن التفكير العقلاني الذي نمارسه نحن. وإذا ما لاحظنا وجود خلافات بيننا وبينهم من حيث الممارسة العقلانية، فإن ذلك عائد إلى الوعي الجماعي السائد هناك، أي إلى المجتمع نفسه، وليس إلى عجز في التركيبة الذهنية لأبناء تلك الشعوب. فالوعي الجماعي هو المسؤول عن تشكيل التصورات الجماعية الخصوصية التي تتميز بها تلك الشعوب، وليس الأفراد كأفراد. وبالتالي، فلكي نفهم سلوك الأفراد أو طريقة محاكمتهم للأمور، فينبغي أن ندرس أولا هذه التصورات الجماعية السائدة في عصرهم.


ولكن إذا كان اسم دوركهايم مرتبطا بمفهومي «الظاهرة الاجتماعية» و«الوعي الاجتماعي»، فإن اسم العالم الاجتماعي «تارد» مرتبط بمفهوم المحاكاة أو التقليد. فهو لا يرى أن العقائد والآراء ليست مبلورة إلا نادرا من قبل الأفراد أنفسهم. وإنما هي موروثة غالبا ومؤبَّدة عن طريق المحاكاة والتقليد. وبالتالي، فإن التشابه الملحوظ بين أفراد جماعة ما، ناتج عن تكرار أفكار وأنماط المحاكمة العقلانية التي يتميز بها أحد أفراد هذه الجماعة أو بعض أفرادها. وهم يكونون عادة الأكثر إبداعا وعبقرية. وبالتالي، فإن الحياة الاجتماعية تتمركز عندئذ حول الإبداعات الفردية التي تتلوها أصداء المحاكاة والتقليد. وبالتالي فالمحاكاة تشكل، طبقا للعالم «تارد»، الرابطة الاجتماعية الأولية التي تربط بين أفراد الجماعة. وانطلاقا منها، فإن الأفراد يكثرون من النسخ طبق الأصل عن النموذج الذي يحاكونه، وذلك من خلال عدوى المحاكاة. انظر محاكاة الزعيم أو القائد.


هكذا نجد أن «تارد»، على عكس دوركهايم، يولي أهمية أكبر للمبادرات الفردية. ويعزو لهذه المبادرات عفوية حقيقية وإمكانية كبيرة على الإبداع والابتكار، وذلك في مواجهة القيود والإكراهات الاجتماعية. وضمن هذا الإطار راح يرسخ المنظور التفاعلي أو التداخلي. وكأن أسلافه من علماء الاجتماع الآخرين قد أهملوا مفهوم التفاعل التداخلي هذا، في حين أنه راح يحتل مكانة مركزية في أعماله هو. وهكذا راح يختلف مع دوركهايم في فهم كيفية استهلاك العادات الاجتماعية. فدوركهايم كان يقول بأن الفرد يستهلكها عن طريق المؤسسات الاجتماعية كالعائلة والمدرسة وسواهما، أو عن طريق القيود التنظيمية للمجتمع. وأما «تارد» فراح يفسرها عن طريق الاحتكاك الذي يحصل بين الأفراد. فهذا الاحتكاك يولد تفاعلات داخلية، وعن طريقها تستهلك الذات العقائد المهنية وأنماط الفكر التي تسيطر على الجماعة. وهكذا بلور «تارد» مصطلح علم النفس التداخلي، أو التفاعل العقلي بين الذوات، أي بين مختلف أفراد المجتمع.


وفي مجال التفاعلات الاجتماعية اهتم العالم «تارد» كثيرا بالمحادثات التي تجري بين الأفراد في مختلف المناسبات. ومعلوم أن المحادثات الشفهية تعتبر اليوم أساس الاندماج الاجتماعي، وكذلك أساس عمليات التأثير الاجتماعي للأفراد على بعضهم البعض. وفهم «تارد» طبيعة المحادثة، وعرف أن هناك علاقة وثيقة بين المحادثات الشفهية وتغيير الرأي. فالناس يؤثرون عليك، من دون شك، إذا ما تحدثوا معك، وقد يتوصلون إلى تغيير رأيك فيما يخص هذه النقطة أو تلك. ويقول «تارد» ما يلي: إذا كانت الأفكار في مجتمع ما لا تتغير إلا ببطء شديد، بل وتبدو جامدة تماما، فإن ذلك يعود إلى ندرة المحادثات بين الأفراد وانعدام حرية التعبير في المجتمع. أو قل إن المحادثات، أو المناقشات والمناظرات، تدور في حلقة ضيقة ومغلقة على ذاتها. ولكن إذا كانت المحادثات كثيرة وجريئة وحرة في مجتمع ما، فإن الآراء تبدو حيوية، متحركة، تنتقل من النقيض إلى النقيض.انظر الفرق بين المجتمع التقليدي المغلق على نفسه، والمجتمع الديمقراطي الحر المنفتح. في الأول ممنوع الكلام تقريبا أو قل محصورا ومراقبا مراقبة شديدة، وفي الثاني مفتوح على مصراعيه وحول مختلف القضايا من دون تابوهات أو محرمات.


لقد أثبت «تارد» أن المحادثة هي أهم رابط اجتماعي بين الأفراد، وهي الأكثر قدرة من حيث تأثير فرد ما على فرد آخر في المجتمع. وسبق بذلك النظريات الحديثة حول التواصل والعقل التواصلي أو الحواري (انظر هابرماس). ولكنه ساهم أيضا في بلورة مفهوم التفاعل الداخلي الذي يحصل بين أفراد الجمهور الغفير وليس فقط بين فرد وآخر. فالأفراد عندما يجتمعون في جمهور يصبحون وكأنهم في حالة تنويم مغناطيسي، وتختلف عندئذ ردود أفعالهم، مما لو كانوا قد بقوا في الحالة الفردية. فالجمهور يؤثر عليك ويجعلك تقوم بتصرفات جريئة أو حتى متهورة، ما كنت قادرا على القيام بها لو بقيت لوحدك. وهذا يعني أنه تحصل عملية محاكاة متبادلة بين الأفراد المجتمعين أو المحتشدين على هيئة جمهور. وعندئذ قد يتصرفون بطريقة غير متوقعة ولا يمكن السيطرة عليها، كما أنهم يصبحون مهيئين لقبول الأوامر التي يصدرها قادة الجمهور، حتى لو كانت هذه الأوامر لاعقلانية أو مضادة لأفكارهم في الحالة العادية (أي قبل الانخراط في الجمهور). وقد كتب غوستاف لوبون أيضا عدة أبحاث حول هذا الموضوع. وترجع شهرته إلى تأليفه عام 1895 لكتاب «سيكولوجية الجماهير»، الذي ترجمناه في بدايات تسعينات القرن الماضي ونشرته دار الساقي في لندن عان 1991. وترتكز نظريته على الفكرة الأساسية التالية: الجمهور هو كيان متماسك ينصهر فيه الأفراد انصهارا، ويصبحون عندئذ خاضعين للروح الجماعية. في الواقع إن الجمهور يضمن الهوية لكل من يساهمون فيه. وهو يضمنها أولا عن طريق إزالة كل الفوارق الطبقية أو الاجتماعية الموجودة بين أعضائه. في الجمهور يصبح الفقير والغني متساويين. وعندئذ ينسحب الوعي الفردي لكي يفسح المجال لهيمنة الوعي الجماعي. ويصبح الفرد المنخرط في الجمهور قويا، أو قل يشعر بأنه أقوى منه في الحالة العادية. يصبح مدفوعا إلى الأمام بقوة هائلة تتجاوزه. وهو إذ يتعلق بالوعي الجماعي يصبح قادرا على التضحية بمصالحه الشخصية من أجل المصلحة العامة للجمهور. ولهذا السبب نستطيع القول إن الأفراد تحولوا إلى جمهور.


ويتميز الجمهور برد الفعل الانفعالي على كل حدث خارجي. وهو رد فعل عنيف أو متطرف ويمكن أن ينتقل من النقيض إلى النقيض. على هذا النحو درس غوستاف لوبون نفسية الجماهير وأسلوب تصرفها. وهذا ما يفسر لنا تقلب الجمهور، وحركته الحيوية، وتغيير رأيه بسرعة. فالجمهور قد ينتقل من العنف الوحشي الأكثر دموية إلى مواقف الكرم والتضحية والبطولة. وبسهولة يمكن أن يصبح جلادا، ولكن بسهولة أيضا يمكن أن يتحول إلى شهيد! فعن طريق التعبئة الجهادية والتدجين اليومي قد يتحول شاب أو فتاة إلى قنبلة بشرية ويفجر نفسه في السوق أو المطعم أو أي مكان آخر ويقتل عددا كبيرا من البشر بمن فيهم الأطفال أو النساء. وهو ما كان قادرا على فعل ذلك في الحالة العادية أو الفردية، أي لولا الفتوى الدينية والتحريض اليومي والتعبئة العقائدية من قبل تنظيم أصولي إرهابي يعرف كيف يؤثر على العقول ويغسلها تماما. والجمهور يتحرك عن طريق العدوى العاطفية التي تنتقل كالشرارة الكهربائية من شخص إلى أخر. وعندئذ يمكن لقادة الجمهور أن يفعلوا بك ما يشاءون، أو أن يوجهوك في الوجهة التي يريدونها، أو أن يتلاعبوا بعقلك على هواهم. انظر ما حصل للجماهير إبان الثورة الفرنسية أو الثورة الإيرانية أو سواهما. ولكن الفرق هو أنهم في الحالة الأولى مشوا بحركة التاريخ إلى الأمام، وفي الحالة الثانية عادوا بها إلى الخلف!

Publicité
Publicité
PHILOSOPHIE ARABE
  • إن جوهر الكون المتخفي و المنغلق في بادئ الأمر لا يملك القوة الكافية لمقاومة شجاعة المعرفة هيغل ـ دروس في تاريخ الفلسفة ـ
  • Accueil du blog
  • Créer un blog avec CanalBlog
Publicité
Publicité